المكتب الهندسي : المسكن الاقتصادي













المسكن الاقتصادي(1)

ربما حصل بعض الجدل والنقاش بين المهندسين والمعماريين والمطورين أنفسهم حول كلمة "اقتصادي"، فهل تعني بالضرورة المسكن "المتواضع" أو قليل التكلفة! أو ذي الجودة المتدنية وبعيد عن الزخرفة والفخامة أم ماذا؟ ومن من هؤلاء يمكن أن يقنع الساكن أو المستخدم للسكن بأن المسكن الاقتصادي ما هو إلا عبارة عن سكن ميسر وسهل وبسيط ويتمتع بجميع المواصفات العالمية والتقنيات الحديثة في صناعة الإسكان أو البناء، ولكن تم استخدام بعض الأساليب للحد من التكاليف الباهظة وغير الضرورية لإنشاء هذه الوحدات.
ودعونا نُعرّف أولاً المسكن الاقتصادي وكما جاء في محاضرة للمعماري عبدالله الثروة ): "هو المسكن الآمن والمريح والذي يلبي جميع الاحتياجات ثم الرغبات الحالية والمستقبلية لساكنيه ويتم امتلاكه بأقل تكلفة وبأفضل جودة ويمكن استخدامه بأفضل تكلفة".
وحيث أن محور النقاش والجدل يحوم حول كلمة "جميع الاحتياجات والرغبات الحالية والمستقبلية"، فالأمر فعلاً يحتاج إلى استراتيجية واضحة للإقناع، وقد يتنافى هذا مع التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى لأسرة تتكون في الوقت الحاضر من 3 أفراد (زوج وزوجة وطفل) يهدف صاحبها أو صاحبتها مستقبلاً لإنجاب طفلين آخرين ومن ثم تزويج أحدهم في نفس السكن. وإن كانت الزوجة تعمل فهل هناك مجال لإسكان السائق والخادمة في ملحق بالسكن نفسه.
ومن هنا كان يجب التركيز على المفاهيم الاقتصادية للبناء والتشييد بداً بالمراحل الأولى وهي دراسة الجدوى "الاقتصادية" لمشروع السكن وسواء كان صاحب المشروع هو فاعل خير أو متبرع أو هو نفسه الذي سيبني ويسكن عن طريق مدخراته أو إلى الاقتراض. ومن ثم مروراً بتجزئة عناصر ومراحل المشروع وتبيان تكلفته والتي أظهرته بعض الدراسات كالتالي:

الارض = 40 %
تنفيذ المشروع = 50 %
التصميم والاعمال الهندسية = 8 %
خدمات = 2 %

وعادة ما يصطدم المفهوم الاقتصادي لبناء المساكن والوحدات السكنية بالتقنيات الحديثة المستخدمة كالهندسة القيمية "Value Engineering" وتخفيض التكاليف "Cost Cutting / Reduction"، فالمفهوم الأول، يركز على الوظائف التي تلبي حاجات المستخدم بينما الأخرى تركز على العناصر Elements ومن هنا تظهر الخلافات والجدل في كيفية تلبية حاجات ورغبات المستفيد كما جاء في التعريف السابق للمسكن الاقتصادي.

كثر الحديث وتشعب النقاش حول ما هو المسكن الاقتصادي فتضاربت الأفكار والآراء حول كيفية تحقيق ذاك المسكن لأسباب وجيهة ومعروفة، فشرق البعض وغرب البعض الآخر وتبارت المؤسسات العقارية كل يدعي أن لديه مفتاح الحل للمسكن الاقتصادي، لكن كل ما دار حول هذا الموضوع لم يتعد ما هو أعمق من السطح، وكل نظر إلى الموضوع من زاوية اهتمامه ومنفعته ولم ينظر إليه من الزاوية المهنية والهندسية المحايدة.
لنبدأ في تعريف المسكن على ضوء الدراسات القيمية، وذلك بتعريف وظيفة المسكن فنقول ان وظيفة المسكن الأساسية هي الإيواء بمستوى مناسب من الجودة، أما الوظائف الثانوية فقد تختلف من شخص إلى آخر، ومن مكان إلى آخر ومن زمن إلى زمن وهي تلبي نشاطات معينة تعتمد على عدد الساكنين والمستوى العلمي والثقافي والدخل، والمركز الوظيفي والاجتماعي مع أهمية النظر إلى تأثير البعد الاقتصادي والاستقرار السياسي واستتباب الأمن.. فبالنظر إلى هذا التعريف نرى أن ما يدور من نقاش وبدون آراء عن هذا الموضوع لم تبحث في تحليل وظيفة المسكن وإجراء الدراسات والتصاميم والتشييد على ضوء ذلك.
إن المتتبع لأعمال التصاميم وطريقة بناء المساكن لدينا يذهل لمقدار ارتفاع التكلفة لتشييد المسكن والمبالغ المالية الباهظة اللازم توافرها لذلك، والتي تفوق ما يحتاجه شخص لتوفيره المسكن في دول كثيرة ذات مداخيل عالية.
إن عدم توافر المسكن لشريحة كبيرة من الناس بسبب ارتفاع التكلفة يؤدي إلى تعطيل حركة تطور المجتمع وإعاقة التنمية ناهيك عن الآثار السلبية وهي كثيرة وجلية كما سبقت الإيماءة فإن الدراسات القيمية تعرف الوظائف الأساسية للمسكن بأنها الإيواء والوظيفة في هذه الدراسات تنقسم إلى نوعين هما: وظيفة أساسية، وظيفة ثانوية.
والوظيفة الثانوية بدورها تنقسم إلى ثلاثة أنواع وما يهمنا هنا اثنتان، هما الوظيفة الثانوية المطلوبة والوظيفة الثانوية المرغوبة، من هنا نستطيع أن نقول ان تعريف المسكن الاقتصادي هو المسكن الذي يحقق وظيفة بمستوى جودة محدد وبأقل تكلفة إجمالية ممكنة.. إن المتمعن للحركة العمرانية لدينا يلحظ أن التصميم ومن بعده التشييد لم يخضعا للدراسات والتحليل القيمي الأمر الذي أدى إلى استحكام النمطية المفضية إلى التكلفة.

المسكن الاقتصادي(2)


لوظائف المسكن ثلاثة أبعاد هي بعد المكان وبعد الزمان والبعد الاجتماعي وهذه الأبعاد لا يتم التوقف عند تحليلها برؤية وتمحيص خصوصاً البعدين الأول والثاني، فعندما نصمم ونشيد المسكن قلما حللنا وأخذنا بالاعتبار مكان التشييد فيأتي المسكن لا يراعي الفرق بين المدينة والقرية وبين الحاضرة والريف، كما لا يؤخذ بالحسبان إن كان المسكن للإقامة والعمل أم للاستجمام والاجازات.. أما البعد الزمني فقلما تأملنا منحنى تغيير عدد أفراد الأسرة على مدى العمر الافتراضي للمسكن وتغيير نمط الحياة من حقبة زمنية إلى أخرى.. إن عبارة المسكن الاقتصادي تعني فيما تعنيه ضبط التكاليف سواءً كانت تلك التكاليف في مرحلة البناء (التشييد) أو لاحقاً في مرحلة الاستخدام والصيانة.. فحين نتعمق في أسباب ارتفاع تكاليف بناء المسكن نجد أنها تعود إلى ثلاثة عوامل رئيسة هي:

1- العامل الاجتماعي، 2- العامل الهندسي، 3- العامل التنظيمي.

إن تأثير تلك العوامل على ارتفاع التكلفة يتطلب شيئاً من الإيضاح والتبيان كل على حدة.
العامل الاجتماعي
نقصد بهذا العامل المعايير الاجتماعية المؤثرة على تصميم وبناء السكن، وعدم اخضاع هذا العامل للتحليل الوظيفي لخفض مستوى تأثيره على التكلفة وربما تحييده، ومن تلك المعايير ما أوجزه في النقاط المبينة أدناه:
مجاراة السائد في حقبة زمنية معينة (موضة) واتباع للآخرين في التصميم والتنفيذ والمواد فنجد أن نمطاً معيناً يسود في هذه الحقبة أو تلك بغض النظر عن الاحتياجات الوظيفية.
المبالغة في الاحتياطات للمتغيرات المستقبلية فنلحظ الكثير يفكر بالسكن والاستثمار، فيريد أن يكون المبنى صالحاً لكل الاحتمالات.
عدم مراعاة خصوصية المكان والزمان والوظيفة وتنوع المناخ وتفاوت الدخل وغير ذلك من المؤثرات فيعم نمط محدد من التصميم والتشييد والمواد من دون أدنى مراعاة لما ذكر.
الثقة الزائدة لدى الشخص (طالب المسكن) بأنه أدرى بشؤونه وأعرف بما يحتاجه، وعلى المعماري والمهندس أن يكون منفذاً فقط مما يحيد بمسيرة التصميم من الإبداع إلى الاتباع.
التركيز على إعطاء مساحات واسعة للضيافة حتى أنها لشكل في أحايين كثيرة 50% أو أكثر من مساحة المسكن.
العامل الهندسي:
للعامل الهندسي تأثير كبير على عملية ارتفاع التكاليف ومن تلك المؤثرات ما نلخصه في الإشارات التالية:
التصميم المعماري وهو تحويل المتطلبات الوظيفية إلى فراغات وأشكال معمارية ذات علاقة تكاملية فيما بينها.. هذه الفراغات أما ان تصمم بناءً على تحليل وظيفي (دراسات الهندسة القيمية)، أو تصميم وفق مؤثرات أخرى قد تكون شخصية أو اجتماعية أو ثقافية وهنا مكمن الارتفاع في التكلفة، كما أن الفصل التام داخل المسكن بين الرجال والنساء أثناء التصميم بقواطع ثابتة يترتب عليه زيادة في المساحات والمواد، ويمكن معالجة ذلك الفصل بطرق إبداعية كثيرة وابتكارات جديدة تراعي الوظيفة وزمن احتياجاتها مما يترتب عليه تخفيض التكاليف، يضاف إلى ما سبق استيراد أنماط دخلية من بيئات مختلفة ومجتمعات متعددة لمحاولة إضفاء لمسات جمالية على المسكن من دون أدنى تحليل على ضوء واقع التصميم وبيئته فتزيد من التكلفة ولا تحقق الهدف.
التصميم الهندسي وهو يشمل كافة النظم الداخلية في تكوين المسكن من نظم انشائية وكهربائية وميكانيكية لتجعل من المسكن محققاً أهدافه، فنرى طغيان نسق محدد لكل من النظم أعلاه من دون اخضاعه للتحليل القيمي والهندسي حتى نصل إلى النسق الأمثل لضبط التكاليف واستدامة المسكن.
التنفيذ وهو المرحلة الأخيرة في بناء المسكن وخط الدفاع الأخير لإيجاد مسكن اقتصادي أن المتتبع لأعمال التنفيذ يلحظ دور التنفيذ في ارتفاع التكاليف لسببين:
السبب الأول: غياب مواصفات دقيقة وحديثة وانعدام وجود جداول كميات.
السبب الثاني: إهمال ضرورة وجود إشراف هندسي بشكل علمي ومنهجي صحيح أثناء مرحلة التنفيذ والاستلام.
العامل التنظيمي:
وهذا يتعلق بالمسائل التنظيمية من لوائح فنية ومالية وإدارية وهذه اللوائح تقوم عليها جهات رسمية ولها تأثير على التصميم وعلى ارتفاع التكاليف خصوصاً إذا ما أخذنا بالاعتبار عدم مواكبتها للتطورات والتفسير الحرفي الذي يتبعه الموكل لهم التطبيق يقوم بناء المسكن الاقتصادي على ركيزتين اثنتين هما:
الأولى تلافي المسببات والتي بين بعضها وإن كان بصيغة مختصرة حتى نتجنب الإسهاب ويناسب صحيفة يومية ونبتعد عن الرطانة الهندسية والتي تهم المختصين وتناسب مطبوعة متخصصة، أما الركيزة الثانية فهي توظيف طرق إبداعية ومن أهمها منهج الهندسة القيمية لإعادة التوازن بين الوظيفة والتكلفة والمظهر وتلك معوقات المسكن الاقتصادي.

عن الكاتب :

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *